كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقالوا: إن الأبواب المشرعة في الدروب غير النافذة دالة على الاشتراك في الدرب إلى حد كل باب منها، فيكون الأول شريكًا من أول الدرب إلى بابه، والثانى شريكًا إلى بابه، والذى في آخر الدرب شريك من أول الدرب إلى بابه، قولًا واحدًا، وإلى آخر الدرب على الصحيح، وكل ذلك بناء على الظن المستفاد من الاستطراق، وأنه بحق.
وقالوا: إن الأجنحة المطلة على ملك الجار وعلى الدروب غير النافذة أنها ملك لأصحابها اعتمادًا على غلبة الظن بذلك، وأنها وضعت باستحقاق. وكذلك القنوات، والجداول الجارية في ملك الغير، دالة على اختصاصها بأرباب المياه، بناء على الظن المستفاد من ذلك، وأن صورها دالة على أنها وضعت باستحقاق.
ومن ذلك: دلالة الأيدى على الاستحقاق، اعتمادا على الظن الغالب، مع القطع بكثرة وضع الأيدى عدوانا وظلمًا، ولاسيما ما اطردت العادة بإجارته وخروجه من يد مالكه، إلى يد مستأجره، كالأراضى والدواب، والحوانيت، والرباع، والحمامات وأن الغالب فيها الخروج عن يد مالكها، وقد اعتبرتم اليد، وقد استشكل كثير من فضلاء أصحابكم هذا، واعترف بأن جوابه مشكل جدًّا، ولما كان الظن المستفاد من الشهود أقوى من الظن المستفاد من هذه الوجوه قدم عليها.
ولما كان الظن المستفاد من الإقرار أقوى من الظن المستفاد من الشهود قدم الإقرار عليها. ولذلك اكتفى كثير من الفقهاء بالمرة الواحدة في الإقرار بالزنا والسرقة لهذه القوة.
قالوا: لأن وازع المقر طبعى، ووازع الشهود شرعى، والوازع الطبعى أقوى من الوازع الشرعى، ولذلك يقبل الإقرار من المسلم، والكافر، والبر، والفاجر: لقيام الوازع الطبعى. ولما كان الوازع عن الكذب على نفسه مخصوصا بالمقر كان إقراره حجة قاصرة عليه وعلى من يتلقى عنه، لكونه فرعه.
ولما كان الوازع الشرعى عامًا بالنسبة إلى جميع الناس، كان حجة عامة: فإن خوف الله يزع الشاهد عن الكذب في حق كل أحد. فكان قوله حجة عامة لكل أحد. ولما كان وازع الكذب مختصًا بالمقر قصر عليه، فهو خاص قوى، والشهادة عامة ضعيفة بالنسبة إلى الإقرار، قوية بالنسبة إلى الأيدى وإلى ما ذكرناه من الدلالات.
ومعلوم أن الظنون لا تقع إلا بأسباب تثيرها وتحركها. فمن أسبابها: الاستصحاب واطراد العادة، أو كثرة وقوعها، أو قول الشاهد، أو شاهد الحال. ولا يقع في الظنون تعارض، وإنما يقع في أسبابها وعلاماتها. فإذا تعارضت أسباب الظنون، فإن حصل الشك لم يحكم بشئ، وإن وجد الظن في أحد الطرفين، حكم به، والحكم للراجح. لأن مرجوحية مقابله تدل على ضعفه.
فإذا تعارض سببا ظن- وكان كل واحد منهما مكذبًا للآخر- تساقطًا: كتعارض البينتين والأمارتين، وإن لم يكن كل واحد منهما مكذبًا للآخر عمل بهما، على حسب الإمكان، كدابة عليها راكبان، وعبد ممسك بيديه اثنان، ودار فيها ساكنان، وخشبة لها حاملان، وجدار متصل بملكين، ونظائر هذا.
فإن كان أحدهما أرجح من الآخر، عمل بالراجح، كالشاهد مع البراءة الأصلية، ومع اليد، يقدم عليهما، لرجحانه.
ولما كانت اليد لها مراتب في القوة والضعف. كانت يد اللابس لثيابه، وعمامته، وخفه، ومنطقته، ونعله: أقوى من يد الجالس على البساط، والراكب على الدابة، ويد الراكب أقوى من يد السائق والقائد، ويد الساكن للدار أضعف من تلك الأيدى، ويد من هو داخل الحمام والخان، أضعف من هذا كله- قدم أقوى الأيدى على أضعفها. فلو كان في الدار اثنان، وتنازعا فيها، وفى لباسهما الذي عليهما، جعلت الدار بينهما، لاستوائهما في اليد. وكان القول قول كل منهما في لباسه المختص به، لقوة يده بالقرب والاتصال. ولو تنازع الراكب والسائق والقائد، قدمت يد الراكب. وكذلك قال الجمهور.
ولو تنازع الزوجان في متاع البيت، أو الصانعان في حانوت، كان القول قول من يدعى منهما ما يصلح له وحده، لغلبة الظن القريب من القطع باختصاصه به.
وكذلك لو رأينا رجلا شريفًا حاسر الرأس، وأمامه داعر على رأسه عمامة، وبيده عمامة لا تليق به وهو هارب. فتقديم يده على الظن المستفاد من كونها يدا عادية مما يقطع ببطلانه.
وكذلك فقيه له كتب في داره. وامرأته غير معروفة بشئ من ذلك البتة. فتقديم يدها على شاهد حال الفقيه في غاية البعد.
وأين الظن المستفاد من هذا وأمثاله إلى الظن المستفاد من النكول، ومن الظن المستفاد من اليد؟ بل أين ذاك الظن من الظن المستفاد من الشاهد واليمين؟.
ومن الممتنع أن يرتب الشارع الأحكام على هذه الظنون، ولا يرتبها على الظنون التي هي أقوى منها بمراتب كثيرة. بل تكاد تقرب من القطع. كما أنه من المحال أن يحرم التأفيف للوالدين، ويبيح شتمهما وضربهما.
وهل تقديم قول المدعى في القسامة إلا اعتمادا على الظن الغالب باللوث؟ وقدم هذا الظن على ظن البراءة الأصلية لقوته.
وقد حكى الله سبحانه في كتابه عن الشاهد الذي شهد من أهل امرأة العزيز. وحكم بالقرائن الظاهرة على براءة يوسف عليه السلام. وكذب المرأة بقوله: {إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرِ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكنَّ عَظِيمٌ} [يوسف: 26- 28].
وسمى الله سبحانه ذلك أية، وهى أبلغ من البينة، فقال: {ثُمَّ بِدِا لهَمُ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ ليسجُنَنَّهُ حَتَّى حِينٍ} [يوسف: 35].
وحكى سبحانه ذلك مقررا له غير منكر، وذلك يدل على رضاه به.
ومن هذا: حكم نبى الله سليمان بن داود عليهما السلام بالولد الذي تنازع فيه المرأتان، فقضى به داود للكبرى، فخرجتا على سليمان، فقصتا عليه القصة، فقال سليمان عليه السلام: ائتونى بالسكين أشقه بينكما، فقالت الصغرى: لا تفعل يا نبى الله، هو ابنها. فقضى به للصغرى، ولم يكن سليمان ليفعل، ولكن أوهمهما ذلك، فطابت نفس الكبرى بذلك. استرواحًا منها إلى راحة التسلى والتأسى بذهاب ابن الأخرى. كما ذهب ابنها، ولم تطب نفس الصغرى بذلك، بل أدركتها شفقة الأم ورحمتها، فناشدته أن لا يفعل، استرواحًا إلى بقاء الولد، ومشاهدته حيا، وإن اتصل إلى الأخرى.
وتأمل حكم سليمان به للصغرى، وقد أقرت به للكبرى تجد تحته: أن الإقرار إذا ظهرت أمارات كذبه، وبطلانه، لم يلتفت إليه، ولم يحكم به على المقر، وكان وجوده كعدمه. وهذا هو الحق الذي لا يجوز الحكم بغيره.
وكذلك إذا غلط المقر، أو أخطأ أو نسى، أو أقر بما لا يعرف مضمونه. لم يؤاخذ بذلك الإقرار، ولم يحكم به عليه، كما لو أقر مكرها.
والله تعالى رفع المؤاخذة بلغو اليمين، لكون الحلف لم يقصد موجبها. وأخبر أنه إنما يؤاخذ بكسب القلب، والغالط والمخطئ والناسى والجاهل والمكره، لم يكسب قلبه ما أقر به أو حلف عليه، فلا يؤاخذ به.
والمقصود: أن الزوج المظلوم المدعى عليه دعوى كاذبة ظالمة: بأنه ترك النفقة والكسوة تلك السنين كلها، أو مدة مقامها عنده، إذا تبين كذب المرأة في دعواها، لم يجز للحاكم سماعها فضلًا عن مطالبته برد الجواب.
فله طرق في التخلص من هذه الدعوى.
أحدها: أن يقول: كيف يسوغ سماع دعوى تكذبها العادة والعرف، ومشاهدة الجيران؟.
الثانى: أن يقول للحاكم: سلها: من كان ينفق عليها، ويكسوها في هذه المدة؟.
فإن ادعت أن غيره كان يؤدى ذلك عنه، لم تسمع دعواها، وكانت الدعوى لذلك الغير. ولا يقبل قولها على الزوج إن غيره قام بهذا الواجب عنه. وهذا مما لا خفاء به، ولا إشكال فيه.
وإن قالت: أنا كنت أنفق على نفسى. قال الزوج: سلها: هل كانت هي التي كانت تدخل وتخرج تشترى الطعام والإدام؟ فإن قالت: نعم، ظهر كذبها ولاسيما إن كانت من ذوات الشرف والأقدار.
وإن قالت: كنت أوكل غيرى في ذلك، ألزمت ببيانه، وإلا ظهر كذبها وظلمها وعدوانها. وكانت معاونتها على ذلك معاونة على الإثم والعدوان.
فإن أعوز الزوج حاكم عالم متحرٍّ للحق لا تأخذه فيه لومة لائم، فليعدل إلى التحيُّل بالخلاص بما يبطل دعواها الكاذبة، إما بأن يجحد استحقاقها لما ادعت به، ولا يعدل إلى الجواب المفصل، فتحتاج هي إلى إقامة البينة على سبب الاستحقاق. وقد يتعذر أو يتعسر عليها ذلك.
فإن أحضرت الصداق وأقامت البينة، فإن كانت لم تنتقل معه إلى داره، جحد تسليمها إليه، والقول قوله إذا لم تكن معه في منزله.
فإن كانت قد انتقلت معه إلى منزله وادعى نشوزها تلك المدة، وأمكنه إقامة البينة بذلك، سقطت نفقتها في مدة النشوز. وإن لم يمكنه إقامة البينة، وادعى عدم تمكينها له من الوطء، وادعت أنها مكنته فالقول قوله، لأن الأصل عدم التمكين، وهذا غير دعواه النشوز فإن النشوز هو العصيان، والأصل عدمه، وهذا إنكار لاستيفاء حقه، والأصل عدمه فتأمله. فإن كان له منها ولد لم يمكنه هذا الإنكار.
ومتى أحس بالشر والمكر احتال، بأن يخبئ شاهدى عدل، بحيث يسمعان كلامها، ولا تراهما، ثم يدفع إليها مالا، أو ترضى به، ويتلطف بها، ثم يقول: أريد أن يجعل كل منا صاحبه في حل حتى تطيب أنفسنا، ولعل الموت يأتى بغتة، ونحو ذلك من الكلام.
وإن أمكنه أن يستنطقها بأنها لا تستحق عليه إلى ذلك الوقت نفقة ولا كسوة، وأنه يرضيها من الآن، ويدفع إليها ما ترضى به كان أقوى. ثم يأخذ خط الشاهدين بذلك، ويكتمه منها. فإن أعجله الأمر عن ذلك، وأمكنه المبادرة برفعها إلى حاكم مالكى، أو حنفى بادر إلى ذلك. وبالجملة فالحازم من يستعد لحيلهن، ويعد لها حيلا يتخلص بها منها، وهذا لا بأس به، ولا إثم فيه، ولا في تعليمه، فإن فيه تخليص المظلوم، وإغاثة الملهوف، وإخزاء الظالم المعتدى. والله الموفق للصواب.
وإنما أطلنا الكلام في هذا المثال، لشدة حاجة الناس إلى ذلك، ولعموم البلوى، وكثرة الفجور، وانتشار الضرر بتمكين المرأة من هذه الدعوى وسماعها، وجعل القول قولها، وفى ذلك كفاية، وإلا فهى تحتمل أكثر من ذلك.
فصل:
والمقصود بهذه الأمثلة وأضعافها، مما لم نذكره: أن الله سبحانه أغنانا بما شرعه لنا من الحنيفية السمحة، وما يسره من الدين على لسان رسوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وسهله للأمة عن الدخول في الآصار والأغلال، وعن ارتكاب طرق المكر والخداع، والاحتيال، كما أغنانا عن كل باطل ومحرم وضار، بما هو أنفع لنا منه من الحق، والمباح النافع.
فأغنانا بأعياد الإسلام عن أعياد الكفار والمشركين من أهل الكتاب والمجوس والصابئين وعبدة الأصنام. وأغنانا بوجوه التجارات والمكاسب الحلال عن الربا والميسر والقمار. وأغنانا بنكاح ما طاب لنا من النساء مثنى وثلاث ورباع، والتسرَّى بما شئنا من الإماء، عن الزنا والفواحش. وأغنانا بأنواع الأشربة اللذيذة، النافعة للقلب والبدن، عن الأشربة الخبيثة المسكرة المذهبة للعقل والدين. وأغنانا بأنواع الملابس الفاخرة: من الكتان، والقطن، والصوف، عن الملابس المحرمة من الحرير والذهب. وأغنانا عن سماع الأبيات وقرآن الشيطان بسماع الآيات وكلام الرحمن. وأغنانا عن الاستقسام بالأزلام، طلبا لما هو خير وأنفع لنا باستخارته التي هي توحيد وتفويض واستعانة وتوكل. وأغنانا عن طلب التنافس في الدنيا وعاجلها بما أحبه لنا وندبنا إليه من التنافس في الآخرة، وما أعد لنا فيها، وأباح الحسد في ذلك. وأغنانا به عن الحسد على الدنيا وشهواتها. وأغنانا بالفرح بفضله ورحمته، وهما القرآن والإيمان، عن الفرح بما يجمعه أهل الدنيا من المتاع، والعقار، والأثمان، فقال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58].
وأغنانا بالتكبر على أعداء الله تعالى، وإظهار الفخر والخيلاء لهم، عن التكبر على أولياء الله تعالى والفخر والخيلاء عليهم، فقال صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لمن رآه يتبختر بين الصفين: «إِنّهَا لَمِشْيَةٌ يَبْغَضُهَا اللهُ إِلا في مِثْلِ هذَا المَوْطِنِ».